أمستردام
أمستردام عاصمة هولندا و لؤلؤة
الأراضي المنخفضة، يحيط بها الماء كأنها فلك ملكي يبحر بجلال، زيارتنا لها لم تأخذ
كثيرا من التخطيط والتفكير، حيث أنها جارة لبلاد الراين، تحركنا في صبيحة يوم
السبت يوم العطلة الأسبوعية بالقطار الألماني ثم تحولنا الى القطار الأوروبي حتى
وصلنا محطة أمستردام الكبرى ذات الطوابق المتعددة والأسواق المتنوعة، وقد صممت
بريشة فنان أبدع لوحة ذو جمال فتان، وأختها – محطة القطار القديمة – شاهدة عيان
على حب الهولنديين للجمال حيث تقع المحطة القديمة ذات اللون القرمزي الفاتح ملاصقة
للجديدة وفيها إبداع العمارة والتصميم
والهندسة.
من شدة الامطار المنسكبة في
الخارج وددنا أن نبقى تحت سقف المحطة الجميلة، ولكن شرارة المغامرة قد اوقدت نارها
في قلبينا فخرجنا جريا حتى رصيف السفينة (العبارة) التي أخذتنا الى الضفة الأخرى
من البحر لمحل إقامتنا في الفندق العائم.
تقع أمستردام في مقاطعة شمال-هولندا في
غرب البلاد، وكانت في بداياتها قرية صغيرة
لصيد الأسماك تقع على ضفاف نهر الأمستل وكان ذلك في
أواخر القرن الثاني عشر،
لكنها أصبحت فيما بعد واحدة من أهم الموانئ على مستوى العالم خلال عصر هولندا
الذهبي في القرن السابع عشر نتيجة تطور التجارة فيها،
وكذلك كانت مركزاً تجاريًاً ومالياً.
توسعت المدينة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وبُنيت العديد
من الأحياء والضواحي الجديدة.
بعد استراحة قصيرة اتجهنا الى وسط المدينة عن طريق المركب
البحري (العبارة) وكانت السماء تنهمر والأجواء مع غزارتها إلا انها تبعث في النفس
همة مواصلة اكتشاف المدينة ولم نكن وحدنا في هذا الشعور، وانما السياح والزائرين
من كل مكان يتقاسمون معنا روعة المكان وبهجة الزمان.
رفيق السفر قد لسعه الجوع والتعب، وعينيه تدوران بحثا عن مأكل
ومشرب، فسمعنا صوت موسيقى عربية ساقتها رياح بحر الشمال، فألقينا مرسى مركبنا عند
باب ذاك المطعم التركي العربي الهولندي، فأكلنا وشربنا. في المطعم التقينا ببعض
العرب من مصر والسودان وبلاد المغرب العربي، معلم الشاورما كان مصريا كثير الكلام
عن السياسة، وزميله الاخر تركيا لا تسمع له صوتا.
خرجنا من المطعم ولا تزال السماء تهب عطاياها للأرض،
تجولنا حاملين واقية المطر (المظلة) مسرعي الخطى. تمتاز شوارع أمستردام بالتنظيم
ففيها مسار للمركبات ويليها مسار للدراجات الهوائية وللمشاة نصيب أيضا.
أمستردام هي واحدة من أكثر مدن العالم الكبرى
استخداماً للدراجات الهوائية، وتعتبر مركزاً عالمياً لثقافة الدراجات موفرةً
مرافق مريحة لراكبي الدراجات مثل المسارات الخاصة وعدة مرائب خاصة بالدراجات ذات التكلفة
الرمزية.
وخلال فترة تجوالنا في شوارع المدينة كنا نلتجئ إلى
المجمعات التجارية هربا من المطر الغزير مما أثرى زيارتنا بمشاهدة أصناف البضائع
والمأكولات المتنوعة، حيث تشتهر أمستردام بصناعة حلوى سكرية مطبوخة بالزيت على شكل
زلابيا، يرش عليها السكر أو الشكولاتة حسب الرغبة، كما رأينا ان الشعب هناك يحب
أكل البطاطا المقلية، بالإضافة الى الاجبان الهولندية الشهيرة والتي خصص لها محال
كبيرة ذات طوابق تبيع صنوف الجبن.
تحتضن أمستردام في قلبها أقدم بورصة في العالم، وهي بورصة
أمستردام، وتحتوي المدينة على العديد من الأماكن الجاذبة للسياح، مثل قنواتها المائية
التاريخية، ومتحف ريكز، ومتحف فان غوخ، والكثير من المعالم الأخرى التي
جعلت العاصمة الهولندية
تستقبل 4.6 مليون زائر دولي سنوياً.
في اليوم التالي وبعد تناول طعام الإفطار ودعنا الفندق
العائم، ثم أخذنا جولة في مركب مغطى بالزجاج جال بنا عبر القنوات المائية الكثيرة
مما أكسبنا معرفة بجميع الأماكن الشهيرة فيها، تمتاز بيوت المدينة بالأشكال
الجميلة والزخارف المنمقة والألوان الزاهية، وحين تراها عبر المراكب فأن المنظر
يزداد جمالا بفضل تلك القنوات المائية، أُضيفت تلك القنوات الواقعة في قلب المدينة
والتي بُنيت في القرن السابع عشر إلى مواقع التراث العالمي في شهر يوليو من عام 2010.
توفر هذه المراكب خدمة التعليق الالي على الأماكن السياحية
فهي بمثابة دليل سياحي بكل اللغات المشهورة ومن ضمنها اللغة العربية، كما توفر
خدمة الانترنت المجاني.
استغرقت الرحلة عبر القارب حوالي ساعة ونيف، وكانت الأجواء
صحوة والشمس قد تدثرت بالسحب البيضاء، مما سمح لنا بالتجوال المريح في شوارع وازقة
المدينة المبلطة بالطوب الأحمر والاحجار المرصوصة بإحكام، من ضمن الأماكن التي
مررنا بها "الحي الصيني" والذي يكتظ بالعمال والباعة الصينين حيث توجد
مطاعم تقدم الطعام الصيني والتايلندي والهندي، كما يقوم الصينيون بالصلاة في المعبد
الصيني الوحيد في المدينة؛ المعبد ذو النقوش الوثنية الملونة بالذهبي والأحمر
ويحرس المعبد تنين قد كشر عن انيابه.
ومن اللطائف الجميلة مررنا بمحل عطور يبيع عطر
"أمواج" العطر الشهير المصنوع في سلطنة عمان، مما أحدث في النفس زهوا
وفخرا.
اسم أمستردام مستمد من كلمة أمستليردام بمعنى سد
على نهر الأمستل، دلالة على موقع المدينة، وبحلول عام 1327 ميلادي، كان
الاسم قد تغير إلى أمستردام وهو الاسم الذي ما زال قائماً حتى الآن.
وقد وصفها الرحالة أحمد بن
قاسم الحجري في كتابه
"رحلة الشهاب إلى لقاء الأحباب" وذكر اسمها بالعربية "مسترضام"
|
|
"ولما
أن بلغنا إلى مدينة مسترضام، رأيت العجب في حسن بنيانها، ونقائها، وكثرة
مخلوقاتها، تكاد أن تكون في العمارة مثل مدينة بريش بفرنجة (باريس) ولم تكن في
الدنيا مدينة بكثرة السفن مثلها. قيل أن في جميع سفنها، صغاراً وكباراً، ستة
آلاف سفينة. وأما الديار، كل واحدة مرسومة، ومزوقة من أعلاها إلى أسفلها
بالألوان العجيبة. ولن تشبه واحدة أخرى في صنع رقمها. والأزقة كلها بالأحجار
المنبتة. والتقيت بمن رأى بلاد المشرق، وبلاد الصقالبة، ورومة، وغيرها من بلاد
الدنيا. قال لي إنه ما رأى مثلها في الزين والملاحة."
وبوصف الرحالة "الحجري" أختم زيارتي
للمدينة، راكبا القطار إلى ألمانيا وما أدراك ما ألمانيا بلاد الراين والغابات
السوداء.
|