قرطبة
بين الجامع
الكبير والوادي ... ذكرى لنا معشر العرب
أعمدة مقدسة حوت
الذاكرين ... بين حلق علم وفرد ترب
قرطبة سلام عليك
منا أهل ... الشرق قاطبة سلام يمحو الكرب
بدر بن ناصر
المقيمي
من محطة "أتوتشا" في مدريد
إلى محطة قرطبة حوالي ساعتين، يوجد في محطة قطار قرطبة مكتب للاستعلام السياحي
الذي زكى لنا اخذ تذكرة حافة "hop on hop off"
والصعود إليها من المحطة مباشرة والتجوال في المدينة ومشاهدة أثارها و أطلال قصور
المسلمين فيها من على سطحها الملون، حتى كانت اخر وقوفها بجانب الجامع الكبير
"جامع قرطبة" اتجهنا مباشرة الى الفندق أو "الموتيل" الاسباني
التراثي إلا أنه استقبلنا استقبالا باردا رغم دفء الجو متعلل بأن الحجز غير
مكتمل!!
من فندق الى اخر ومن موتيل الى
غيره؛ الكل يشير إلى عدم وجود غرف شاغرة، فقلت لرفيقي العزيز دعنا نسترح في مقهى
بجوار الجامع نرتشف القهوة الاسبانية أو نتبرد بالبوظة القرطبية وخيرا فعلنا، من
ذاك المقهى شحنت هاتفي ورميت اثقالي و دخلت الشبكة العنكبوتية بحثا عن مكان نبيت
فيه، فما كان غير فندق "جراند قرطبة" العالمي، الذي وصلنا إليه خلال 10
دقائق بسيارة الأجرة، ومع غلاء سعره إلا أنه يستاهل بحكم نجوميته وخدماته ومريح
سريره.
قرطبة تابعة لمنطقة
"أندلوسيا " في
جنوب إسبانيا وتقع
على ضفة نهر الوادي الكبير، اشتهرت أيام الحكم الإسلامي لإسبانيا، ولقد
ذكرها الكثير من المؤرخين العرب في كتاباتهم ومنهم ياقوت الحموي، حيث كانت
قرطبة في عهد عبد الرحمن الداخل الأموي
عاصمة لدولة الأندلس، ويستضيء الماشي بسراجها من على بعد عشرة أميال، وبلغ عدد
سكانها حوالي المليون نسمة بينما كانت أكبر مدينة في أوروبا لا
يزيد سكانها عن ربع مليون نسمة، وكان عدد حماماتها العمومية ومرافقها وبيوتها
حوالي 283000، وبلغ عدد قصورها ثمانون ألفا، وكان فيها مئة وسبعون إمرأه كلهن
يكتبن المصاحف بالخط
الكوفي، وتحتوي المدينة على خمسين مستشفى، وفيها ستمئة مسجد ومن
أهم مساجدها مسجد قرطبة، الذي لم يوجد له مثيل أو نظير في الفخامة والزخرفة
وروعة البنيان.
يحيط بالفندق مدينة حديثة فسيحة
الشوارع، منظمة الأسواق فيها ممشى طويل مزروع على جانبيه أشجار النخيل والزيتون
والحمضيات، ولا عجب أن الناس من الشبع لا يغريهم البرتقال الواقع على الأرض.
ليل قرطبة، ياه ما اجمل ذاك
الليل، نسيم بارد عليل يبعث في النفس كل مشاعر الحب والعشق فعلا أنه ليل عشاق،
تراهم تحت الأشجار وفوق المقاعد يدندنون شعر "ولادة بنت المستكفي"
بألحان "زرياب" .
بتنا ليلتنا تلك، وصبحنا والحمد
لله بخير وعافية، على موائد متنوعة من الطعام؛ فهذا أوروبي وذاك أسباني عربي وغيره
من خيرات الأرض وبركات السماء.
ودعنا الفندق إلى الحافلة ثم الى
الجامع الكبير وما حوله من آثار مباركة شهدت تاريخ طويل من العز والكرامة و سنين
من الموت والتشريد، قبل دخولنا الى الجامع - الذي يفتح أبوابه الساعة الثانية ظهرا
بسبب أن اليوم كان عطلة - تجولنا لاكتشاف ما حوله من متاحف، متحف قلعة
"كالاهورا" تقع مقابل الجامع يربطهما جسر قديم يطلق عليه "الجسر
الروماني" يمر تحته نهر، وهو ما يسمى الوادي الكبير، في هذا المتحف تصوير
صوتي عن تاريخ المدينة و بعض الرموز الإسلامية والنصرانية، كما يحوي الطابق الثاني
منه مجسم جميل للجامع، و مجسمات تحكي عن الحياة في المدينة من خلال بيوتها ذات
الصحن الداخلي المحيط به الغرف يتوسطه نافورة ماء، وأيضا مجسمات عن أسواقها
ومزارعها وطرق استجلاب الماء، كما زينت "روزناتها" بالآلات الموسيقية
العربية كالعود والدف والناي، وعلق على جدران القلعة السجاد
الشرقي الحريري المنسوج بالزخارف الإسلامية والألوان الزاهية.
يوفر المتحف خدمة الدليل الآلي بجميع
اللغات الشهيرة ومن ضمنها اللغة العربية، القلعة بناها المسلمون إبان حكمهم
للأندلس وهي ذات طابع عسكري لحماية مدينة قرطبة قبل دخول الجسر الروماني.
سبقني صاحبي إلى الجامع وقام
بشراء تذاكر الدخول (عشرة يورو لكل تذكرة)
يرجع تأسيس مسجد قرطبة إلى سنة 92 هـ عندما
اتخذ بنو أمية قرطبة حاضرة الخلافة
الأموية في الأندلس، حيث شاطر المسلمون المسيحيين قرطبة كنيستهم العظمى،
فبنوا في شطرهم مسجداً وبقي الشطر الآخر للروم، وحينما ازدحمت المدينة
بالمسلمين وجيوشهم اشترى عبد الرحمن الداخل شطر
الكنيسة العائد للروم مقابل أن يُعيد بناء ما تمّ هدمه من كنائسهم وقت الغزو، وقد
أمر عبد الرحمن الداخل بإنشائه
سنة 785م وكانت
مساحته آنذاك 4875 متراً مربعاً وكان المسجد قديماً يُسمى بجامع الحضرة أي جامع
الخليفة أمّا اليوم فيُسمى بمسجد الكاتدرائية وتعرف من قبل سكان قرطبة باسم كاتدرائية مسكيتا وكلمة
مسكيتا تعني مسجد. أهم ما
يميز هذا الجامع ويجعله فريدا في تاريخ الفن
المعماري أن كل الإضافات والتعديلات وأعمال الزينة، كانت تسير في اتجاه واحد وعلى
وتيرة واحدة، بحيث يتسق مع شكله الأساسي.
طابور طويل من السياح القادمين من
مختلف بقاع الأرض، صاحبي كان من أوائل الواقفين فيسر ذلك لنا الدخول بدون تعب،
أعمدة المسجد لا تزال كما هي من الرخام والنقوش، والمزركشات الإسلامية تزين
أقواسها، المحراب لم تندسه أيدي الاسبان إلا أنهم بنوا داخل الجامع كنيسة واغدقوا
عليها من التماثيل المذهبة الكثير، و الغرف الخاصة بالكهنة، في المسجد تأخذك رهبة
وروحانية حتى مع ضجيج الزوار تشعر بأنك في عام
175هـ حين كانت جموع المصلين تتردد على المسجد من راكع وساجد وذاكر وكأن
المكان يحمل بين أرجائه أرواح الصلوات الطيبات.
الصحن الخارجي للمسجد عبارة عن
حديقة غناء بمختلف الأشجار المثمرة كالتفاح والبرتقال والزيتون بالإضافة الى
النخيل، وفيه حوض ماء يتفرع في سواق والتي كانت مواضئ فيما مضى.
انتقلنا من المسجد الى الحارة
القديمة؛ ببيوتها العربية وأزقتها المترفة بالأحجار المرصوصة، قد حول بعضها الى
فنادق ومقاه ومحلات تبيع التذكارات، بعض البيوت لها تاريخ فمنها بيوت كانت لعلماء
وشعراء وادباء عاشوا ذاك العصر الذهبي.
يوجد على مسافة 10 كيلو متر من قرطبة مدينة أسمها "الزهراء"
بناها الخليفة الأموي في الأندلس عبدالرحمن الناصر وفيها قصور أهمها قصر "المؤنس"،
ومع تغير الأحوال وتقلب الزمان هجرت المدينة ولم يبقى منها غير أطلالها ونظرا لضيق
الوقت لم نتمكن من زيارتها، فقد كان قطار "غرناطة"
ينفخ بوقه مناديا المسافرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق